top of page
  • قصي همرور

قبيلة جديدة: مهنيّون ودارسون بين تداخلات الهندسة والحوكمة

Updated: Aug 7, 2021


بنظرة تاريخية عامة، يمكن القول إنه منذ ستينات القرن العشرين وإلى اليوم، لم تتحرك البشرية كافة للأمام إلا في مضمار التكنولوجيا الحديثة. أي مضمار آخر - اقتصاد، سياسة، فلسفة، فنون، لاهوت، أخلاقيات، إلخ - لم تظهر فيه أي معالم تقدّم ملموس، إن لم نقل إن هنالك بعض الانتكاسات. بجانب التكنولوجيا الحديثة (والعلوم المستفيدة منها، وفلسفة العلوم التي تستقي تحديثاتها من اكتشافات العلوم الحديثة المتاحة عبر التكنولوجيا الحديثة)، أي فكرة كبيرة تدور بيننا هذه الأيام الراجح أنها لا تتجاوز كونها نسخة ثابتة – أو باهتة – من فكرة أصيلة كانت حاضرة ونشطة في عالمنا منذ خمسة عقود على الأقل؛ بل وأي نقاش حولها وفيما بينها الآن غالبا ما يكون أقرب للتكرار الهزيل لنقاش وحوار جرى في الستينات أو قبلها. نحن نعيش في عصر مثير ومتجدد من حيث التكنولوجيا والعلوم الطبيعية، باهتٌ ومتصدّع من حيث محركات الفكر وبواعث الأخلاق. وذلك مزيج كارثي، كما أشار إليه بعض الحكماء الأصلاء في الحقبة الماضية. نحتاج لنقلات وعي حقيقية، إذ نحن في مرمى العبارة السهلة الممتنعة، للطيب صالح: "وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدو الفكاك من ربقتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح."


لكن هذا الواقع يضعنا أمام تغيّرات كبيرة أيضا في أطر التفكير، لا يفلح من يتجاهلها. على سبيل المثال، الصين، في فترة نهضتها الوطنية الحديثة الأسطورية (في العقود البسيطة الماضية، حتى اليوم) لم يكن خرّيجو الهندسة والعلوم في قمة هرم دولتها فحسب (تنفيذياً وتشريعياً) بل كانوا كذلك - وما زالوا - راسمي الخطط والسياسات بعيدة المدى، وأيضا درابنة المنافذ المذهبية والفلسفية (doctrine gatekeepers) ومصممي المشاريع الوطنية والعابرة للحدود التي جعلت وتجعل من الصين الآن السلطة العالمية الصاعدة (والقريبة جدا من هدفها) بعد أن كانت عالماً ثالثاً قبل أربعة عقود. في الصين هنالك ثقافة عامة تضع ثقة عالية في أن خريجي الهندسة والعلوم لديهم مستوى كفؤ من القدرات والالتزام ليكونوا تكنوقراط ومديرين للملفات العامة في الدولة والأعمال والمجتمع المدني. وحالياً، في العالم، فإن أعلى نسب الخريجين من مجالات الهندسة والعلوم في الصين والهند، على التوالي، وهما الدولتان الضخمتان الصاعدتان بقوة اقتصادياً وتكنولوجياً، بحيث أنهما حالياً ثاني وثالث أكبر اقتصادات العالم، وتقول الاستقراءات إنهما في طريقهما ليتجاوزا الولايات المتحدة الامريكية مع حلول العام 2050.


وعموماً، فدخول خريجي هذا المنحى التعليمي (الهندسة والعلوم) للمناحي الأخرى صار حالياً موجة وصلت لبلدان كثيرة، خصوصاً البلدان الصاعدة اقتصادياً وصناعياً في هذه الحقبة (وله سوابق متعددة في التاريخ الحديث، في أوروبا وأمريكا الشمالية). وفي كثير من الأحيان فهؤلاء الخريجين يدرسون دراسات عليا في تخصصات أخرى، أقرب للإدارة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية والإنسانيات، إلخ. قد نرى هذه الأيام بين أصدقائنا وأقربائنا نماذج لهؤلاء الأشخاص، ونظنهم غرباء أو متميّزين بعض الشيء، لكن في الصورة العالمية الكبيرة فإن هؤلاء الأشخاص جزء من ظاهرة حديثة واسعة نسبياً—قبيلة جديدة.


وهنالك برامج أكاديمية – خاصة في الدراسات العليا – استجابت لنداء هذا الظهور الجديد، أو هذه القبيلة الجديدة. من هذه البرامج الأكاديمية في الدراسات العليا التي تجمع الهندسة والسياسات العامة، أو الهندسة والتنمية، أو التكنولوجيا والسياسات، إلخ. يقول مورقان (2010) وهو يصف أحمد تلك التخصصات، حيث المنطقة المتداخلة بين السياسة والتقانة: "هناك جانب من المشاكل السياسية تكون التفاصيل التقانية فيها ذات أهمية ماسّة، بحيث أن الفشل في اعتبار تلك التفاصيل والنظر الجاد في محتواها يمكن أن يقود إلى نتائج غبية أو لا تستحق الاحترام... اليوم الكثير من مدرّسي العلوم والهندسة سريعون في الانتباه لأهمية تجهيز طلبة ذوي خلفية تقانية بحيث يستطيعون أيضا التعاطي مع مشاكل سياسية/إدارية تهمّ فيها تلك التفاصيل."[1] من ناحية أخرى، في العالم الرأسمالي، فإن نسبة عالية من روّاد الأعمال الذين صعدت ثروتهم بسرعة مذهلة في فترة وجيزة، وساهمت الشركات التي ابتدروها باختراقات تكنولوجية عالية في مجالات الأعمال وصياغة المجتمع المعاصر، من خريجي ما يسمى بمجالات STEM: العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.


الهندسة والسياسة العامة

المصدر: الكاتب - كتاب السلطة الخامسة (ص ١٢٨)


عبر تجربة قريبة ودراسة، يمكن القول إن معارف هذا العصر كلها متأثرة بظاهرتين أساسيتين ومحوريتين في واقعنا: الدولة العصرية (أعقد هيكل حكم في التاريخ البشري حتى الآن) والتكنولوجيا الحديثة (أعقد وأضخم منجز مادي للمجتمع البشري حتى الآن). وتأثير هاتين الظاهرتين يسري في كل أشكال المعارف والاجتماع والنشاط البشري المعاصر: في الفلسفة والإنسانيات، وفي الثيولوجيا والخطاب الديني، وفي الفنون بشتى صورها، وفي الرياضة، إلى العلاقات البشرية الحميمة وغير الحميمة، إلخ.[2] لذلك فإن دراسة مجالات العلوم والهندسة (ومنها التكنولوجيا والرياضيات)، وكذلك دراسة القانون والحوكمة، دراسة منهجية (مدرسية أو غير مدرسية)، من المنصات الجيدة (good foundations) التي تهيئ المرء للتعاطي مع أشكال المعارف المعاصرة الأخرى، وتطوراتها وتطورات تطبيقاتها، باستيعاب كبير للسياق الواقعي المعاصر. لدرجة أن من يتعاطون اليوم مع الفلسفة التجريدية بدون خلفية كافية عن العلوم والتكنولوجيا، أو من يتعاطون الثيولوجيا والاجتماع بدون بذل جهد في فهم تطورات القانون المعاصر وإمكانيات التكنولوجيا الحديثة، إنما يمشون مشياً مشتتاً وتعوزه الخارطة في مساحات تلك المعارف. وهذا أمر فطن له عدد من الفلاسفة الذين حضروا بدايات هذا العصر، مثل كارل ماركس وكارل بولاني، فالإثنان رغم أنهما لم يدرسا التكنولوجيا والعلوم دراسة أكاديمية إلا أنهما اهتما بها اهتماماً جاداً وواسعاً، لدرجة أن بعض علماء الاجتماع ذكروا أن تميّز ماركس في فهم حركة التاريخ التي أدت لهذا الواقع وفهم تبعات هذا الواقع كذلك، كان لأنه – أي ماركس – كان شخصياً، تلميذاً يقظاً للتكنولوجيا.[3] أما بولاني فإن بعض من لخّصوا أطروحاته الفلسفية والاقتصادية-سياسية يقولون إن عروة ما يقوله بولاني عن الاقتصاد الحديث إنه "يتكون من تكنولوجيا موظفة في سياق مؤسسات. هذا السياق ديناميكي العلاقات. المؤسسات تشكّل التكنولوجيا كما التكنولوجيا تشكّل المؤسسات"[4] وإن الفرق بين الرأسمالية والاشتراكية إنما هو كيفية "مأسسة التكنولوجيا الحديثة في المجتمع"، الأمر الذي يتطلب فهما للتكنولوجيا الحديثة وللقوانين الحديثة معاً. أما برتراند راسل، كفيلسوف يختلف بصورة كبيرة عن نموذجي ماركس وبولاني – إذ انشغل أكثر منهما بقضايا عالية التجريد – فالموثّق عنه أنه كان يرى أن لدارسي الرياضيات والعلوم الطبيعية ميزة عالية على الفلاسفة الذين لا علاقة لهم بتلك المجالات، ورأى في عزوف الكثير من الفلاسفة عن دراسة الرياضيات كسلاً غير مبرّر أو قلة قدرة على فهمها، كما ذكر أنه كان يفضّل أن يكون عالماً (scientist) بدل أن يكون فيلسوفاً.[5] في هذا الإطار، يمكن فهم مواقف هؤلاء الفلاسفة على أنها إرهاصات العصر الذي صار فيه الدمج، والمزج، بين المعارف الفنية/التقانية والمعارف الفلسفية والاجتماعية، أمراً مطلوباً وبشدة. فلا غرو، إذن، أن الكثير من خريجي الهندسة والعلوم، وكذلك خريجي الدراسات القانونية والحوكمية، انخرطوا في سبر أغوار مجالات أخرى غير هذه المجالات تحديداً، إما بالدراسة المستقلة أو المدرسية. هذا استدعاء تاريخي جديد، لظروف تاريخية جديدة، وجد استجابة تاريخية على هذا النحو.


لكن، نموذج الصين يعطينا دروساً أوسع بخصوص خوض خريجي منحى الهندسة والعلوم لمجالات الحوكمة والإنسانيات، فهؤلاء يمكنهم صناعة أعاجيب، لكن بتكلفة عالية. فهم يكونون أحياناً "عمليين أكثر من اللازم"، وقد يستغرب البعض هذا القول فهذه صفة قوة عموماً، لكنها كعب أخيل أيضاً. ذلك لأن المعارف والمهارات العلمية-العملية إذا لم يتم تطعيمها بصورة كافية بالقدرات التجريدية والتخيلية، والفلسفية الخلّاقة، فإن خريجي هذا المنحى سيتقنون جدا كيف يديرون العالم المعاصر لكن لن يعرفوا كيف ينتقلون به إلى احتمالات أوسع وأفضل (وفي هذه يسعف الخيال والفلسفة - وكذلك العرفان والمجاهدة الأخلاقية بالضرورة - كثيراً)، ولعلّنا جميعا نتفق على أن مستقبلاً أفضل من هذا المعاصر، متجاوز له في أوجه كثيرة، ليس طُموحاً فقط وإنما ضرورة.


لذلك فالشاهد أن اهتمام بعض خريجي الهندسة والعلوم بالاستزادة من مجالات الإنسانيات والحوكمة، كمساحات تختلف عن تخصصاتهم الكلاسيكية، والإسهام فيها، محمدة، أي علامة صحة عموماً، ونتائجها مبذولة أمامنا لمن يرى. لكنهم بحاجة للاندماج والتزاوج أكثر بأهل المناحي الأخرى (كشارع باتجاهين، فحتى مجالات العلوم والهندسة القحة تحتاج لهؤلاء الآخرين أحياناً). ظاهرة دمج التخصصات (interdisciplinary) - أو تجاوز سياجات التخصصية (transdisciplinary) أحياناً (وليس تجاوز المنهجية) – علامة إيجابية عموماً، ينبغي رفدها وتطويرها.



المراجع

[1] M. Granger Morgan, 2010. “Technology and Policy” in D Grasso and MB Burkins’ (eds) Holistic Engineering Education: Beyond Technology, New York: Springer. Chapter 19, p. 271.


[2] قصي همرور، 2021، السلطة الخامسة: نحو توطين التكنولوجيا. الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر.


[3] Nathan Rosenberg. 1982. Inside the Black Box: Economy and Technology. New York: Cambridge University Press.


[4] J. Ron Stanfield. 1990. “Karl Polanyi and contemporary economic thought” in K Polanyi-Levitt"s (ed.) The life and work of Karl Polanyi. Montreal: Black Rose Books. Chapter 22.


[5] ألان وود، برتراند رسل: دراسة في تطور فلسفته، ترجمة وتقدمة: سمير عبده، 1994. دمشق: دار علاء الدين.


187 views0 comments

Recent Posts

See All
Post: Blog2_Post
bottom of page