top of page
  • فريق تحرير عَمَار

مقال افتتاحي

Updated: Jun 25, 2021

يوضح هذا المقال بصورة أكثر تفصيلاً الأبعاد التاريخية والمفاهيمية التي ساهمت في صياغة رؤية وأهداف هذه المدونة.


سرد تاريخي:


تاريخ التكنولوجيا في المنطقة



عبر الزمن، عكفت كل المجتمعات الانسانية في تطوير أساليب وأدوات لتكييف الموارد التي تدعم حياة هذه المجتمعات نفسها. سنعرّف جميع منتجات عملية التطوير هذه بالتكنولوجيا -Technology: تعبير (logos) عن "فن، حرفة، مهارة" (techni). كانت البقعة الجغرافية التي تعرف بدولة السودان الحديثة مهداً لمختلف الحضارات التي عملت على تطوير التكنولوجيا الخاصة بها. فقبل 15000 عام عرف سكان التجمعات البشرية في منطقة العفاض شمال السودان صناعة أدوات الصيد الحجرية و تشكيل حجر الصوان[1]، وخلال الحضارة المروية عرفت صناعة متقدمة للحديد، ونسيج القطن، وانظمة مائية للإستخدام المنزلي والري، دقيقة ومعقدة. وفي عصر الفونج صكت العملة محلياً في جبال النوبة[2]. كما تشيرالوثائق إلى ازدهار صناعات سبك وتشكيل الحديد من جبل حرازة في قلب جبال النوبة وشمالاً حتى بارا[3]. وورث وطور مزارعي توتي وحلة حمد أنظمة دقيقة لتقدير حدود المساحات الزراعية على جروف النيل بناءً على التنبؤات بمناسيب فيضان النيل[4]. هذه هي فقط بعض الأمثلة الأكثر ذيوعاً لتقنيات ومعارف محلية طورها سكان هذه البقعة.



ومثلها مثل أي نشاط إنساني آخر، فقد ظلت هذه المعارف في حوار دائم مع العالم من حولها، يثريها وتثريه. مع مر الزمن تطورت وتشكلت التكنولوجيا في اتساق وارتباط عضوي مستجيبة لحاجات المجتمعات الموجودة في السودان ومطورة لها كما هو الحال في كل المجتمعات القديمة. تتميز هذه التكنولوجيا – التي تسمى الآن بالتكنولوجيا التقليدية - بارتباطها العضوي في المجتمعات التي نمت فيها وحالة الانسجام التام بين حاجات هذه المجتمعات وقدرتها وتركيبها الاجتماعي السياسي الاقتصادي و البيئي وأشكال التكنولوجيا المبتكرة وآليات تطويرها. استمرت هذه العمليات العضوية للإنتاج المعرفي التقني على المنوال ذاته حتى إجتياح الأنظمة الإستعمارية، بدءً بالإحتلال التركي-المصري، ووصولاً إلى الحكم الثنائي البريطاني-المصري.

التكنولوجيا الحديثة: أداة المستعمر وحجته


يشير مفهوم التكنولوجيا اليوم إلى التكنولوجيا الغربية الحديثة كما عرفها العالم في أعقاب الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، والتي إنصهرت فيها معارف شتى، مثل الإغريقية والرومانية والعربية، مع النتاج المعرفي الأوروبي لعصري النهضة والتنوير خاصةً. لتغير بذلك مجرى التاريخ الحديث من خلال إختراعات عظيمة كالماكينة البخارية وخطوط إنتاج الحديد والنسيج الحديثة.

تطورت الهندسة كمفهوم وممارسة مع المهن المنظمة الأخرى كالطب والمحاماة بشكلها الحالي المقسم و المدرج بتقاليدها ونظم ممارستها وتعليمها إبان الثورة الصناعية واستجلب إلى السودان بواسطة المستعمر كجزء من عمليات الهندسة الاجتماعية (جلب الحضارة) للمجتمعات المحلية بدعوى تحديثها ضمن الخطاب الحضاري المسوغ للمشروع الإستعماري عامة. إلا أن توظيفها لخدمة أغراض الإستعمار قد كان جلياً وقد تم بالتوازي مع عملية القطيعة المباشرة للتطور العضوي لتلك المجتمعات بشكل عام وموروثها التكنولوجي وتطوره بشكل خاص.

.

في عام 1905 تم إفتتاح أول مؤسسة تعليم تقني نظامية في كلية غردون تقوم بتخريج مساحين وفنيين لمعاونة المستعمر. وقد كان الطلب على المهارت التقنية جزء من عملية التحول التدريجي نحو أنظمة إنتاج رأسمالية حديثة مصممة للمستعمرات في طبيعتها الإستخراجية المستنزفة وتبايناتها الصارخة. فقد تجلى التباين بين المستعمِر والمستعمَر في المدن الإستعمارية كالخرطوم التي صممت وفقاً لمعايير العواصم الكبيرة المتروبوليتانية بشوارعها المسفلتة والمنارة محاطة بمساكن المحليين المعدمة. كما عُزز التباين بين الأقاليم المهمة إقتصادياً للمستعمر وتلك عديمة الأهمية. فقد رسمت خريطة قطار السكة حديد المسار الذي تتخذه الماشية والمحاصيل النقدية، في ربطها لمراكز الإنتاج في كردفان والجزيرة والقضارف وإقليم القاش بالأسواق عبر مصر وميناء بورتسودان، تاركة مايقارب 20% من مساحة البلاد في إقليم دارفور الجاف و منخفض العوائد الإستخراجية بلا محطة قطار واحدة5.


وبشكل اكثر تفصيلاً، تولدت سياسة المستعمر الى خلق تنمية غير متوازنة قسمت السودان الى ثلات مناطق وشكلت مناطق الحروب والنزاعات في المستقبل. فمناطق الوسط والشمال قد حدثت فيها هيكلة كاملة للمجتمع وتغيير انماط الحياة القديمة وتأسيس للمؤسسات والبنية التحتية الذي انتج لاحقا المركز المنمى المتميز عن الهامش. في القسم الثاني سعى المستعمر للمحافظة على بنى المجتمع القديم واعادة انتاجها مع ربطها بالسوق العالمي للحوم والصمغ العربي في مناطق دارفور وكردفان، أما الحزام الثالث في الجنوب فقد تركز فيه الوجود العسكري الصرف لعدم وجوده داخل دائرة الاهتمام الاقتصادي لدى المستعمر[6].

أدت عملية التحويل في بعد آخر إلى ولادة شكل جديد من النخبة المتعلمة في السودان داخلت المستعمر واندمجت في الحراك الفكري والسياسي العالمي وصارعت قهر النظام الإمبريالي. وتبلورت إلى تشكيل حركات تقدمية تطالب بالعدالة الإجتماعية ولعبت دوراً بارزاً في الساحة السياسية والنضال من أجل الإستقلال.


خطاب التخلف والتنمية: الإستعمار الجديد


رغم الإستقلال الرسمي للسودان في منتصف القرن الماضي، إلا أنه لم يحدث تغييراً كبيراً في إستغلال ثروات البلاد أو تقسيم السودان تنموياً، النموذج الذي قاد الكثيرين إلى حمل السلاح والإنتظام في حركات تمرد جعلت من البلاد ساحة مستمرة للحروب الأهلية. كما زادت وتيرة الإستنزاف للريف منذ العام 1977مع إنهيار أسس معيشة المجتمعات المحلية مصحوبة بموجات الجفاف ومنتجة لحروب جديدة في الجنوب والغرب[7]. كانت الفكرة السائدة و ما زالت عن التحديث في بلدان ما بعد الاستعمار، بما فيها السودان، هي أن ما ينقص هذه البلدان هو التكنولوجيا وما عليها إلا ان تعمل على نقل تكنولوجيا الصناعة بصورتها في البلدان الغربية من مصانع كبيرة ومشاريع مركزية، الشيء الذي لم ينجح في نقل هذه المجتمعات الى مصاف الدول التي تعرف بالمتقدمة. علاوة على أنها لم تنفذ إلى تغيير أوضاع الفقراء إلى الأفضل بل في أحيان كثيرة أسهمت في تفاقم الأوضاع وتركيز الثروة في أيدي قليلة. يمكن ملاحظة هذا بوضوح في جملة المشاريع الصناعية التي قامت بها الدولة إبان فترتي حكم عبود ونميري. وعلاوة على ذلك فإن انظمة الدولة بطبيعتها تنزع إلى إحتكار إستخدام و تطويرالتكنولوجيا. من الامثلة الحديثة منع دخول الطابعات للسودان وحظر أجهزة إستقبال البث التلفزيوني الخارجي (الدش) بواسطة نظام الإنفاذ وغيرها الكثير.


وبشكل عام يمكن القول أن وعد التنمية وبشريات التحديث التكنولوجي قد ظلت الباب الذي تطل منه النيوكولونيالية (الإستعمار الجديد) المتمثلة في تحالفات النخب المحلية ورؤؤس الأموال العالمية للمسثمرين أو لمنظمات التنمية الدولية والتي ظلت تدير دفة الحياة الإقتصادية وأولوياتها مجذرة بذلك منطق الإنتاج الإستخراجي ذا العوائد السريعة كشكل أبرز للأقتصاد. إلا من محاولات قليلة متفاوتة في النجاح والفشل لنقل التكنولوجيا وبناء قاعدة صناعية.


ومع اتساع الوعي بظروف ما بعد الاستعمار ظهرت قراءات نقدية لنماذج المشاريع التي استحدثت في بلدان ما بعد الاستعمار فمثلا يرى قصي همرور ان الاشكالية تكمن في المنهجية المتبعة "نسق نقل التكنولوجيا" ويرى أنه يتركب على خلل مفهومي هو أنه يؤسس نفسه غاضاً الطرف عن الوضعية الهيكلية والتاريخية للمجتمع المستهدف ويضع في اعتباره فقط الحالة الراهنة التي وصل اليها المجتمع المتقدم وبذا يحاول إلحاق المجتمع المستهدف ليتساوى مع تلك المتقدمة. وعليه يقترح الكاتب منهجية مغايرة تنبني على مراعاة والتركيز على الإرث التقني للمجتمع المعني بالاستفادة ودفعه للأمام لصياغة نسق تكنولوجي متطور لتلك المجتمعات بناء على احتياجاتها [8].


على صعيد آخر تبلورت في المراكز الكبيرة في العالم رؤية نقدية للهندسة عموما وممارستها في حيث ارتباطها القوي والملاحظ بأهداف رأس المال وإشكالية هدفه الربح لتطوير تكنولوجيا تخدم الانسان بشكل أساسي بالاضافة للسيطرة الواسعة للعسكرة على مسار التطور التكنولوجي بما فيها من تسريع آليات تطوير الحرب ضعضعة السلم. حيث تبحث هذه الرؤية في الفكر السائد داخل المهنة (بين المهندسين والتكنولوجيين) وخارجها في المؤسسات والدولة وتحاجج بأن المهنة كانت و مازالت تطوي داخلها رؤية آيديولوجية رأسمالية وهي غير حيادية رغم إدعائها ذلك. كما تبحث اوجه الارتباط الايديولوجي بالشكل التنظيمي الإداري للمؤسسات والمنشآت وسيطرة الجيش ورأس المال علي صيرورة المهنة والبحث العلمي مثل الإنفاق و التشغيل، وتحاول هذه الرؤية تأسيس مفاهيم مغايرة تدمج الهندسة بالبعد الإنساني وبقضايا العدالة الإجتماعية واستشراف آفاق واستراتيجيات للتغيير[9]. وهي الرؤية التي تهدف هذه الإصدارة لخلق منبر لسبرها والتفاكر حولها في سياقنا السوداني.



المراجع

  1. http://archeosudan.org/en/after-the-2013-field-season/

  2. سبولدينق.ج. (2010). عصر البطولة في سنار. هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. الخرطوم

  3. https://www.kean.edu/~jspauldi/KORDOFANIRON.HTML

  4. J. W. Crowfoot (1918) Khartoum province. A local Nile Gauge. Sudan notes and records. 1 (4), 295–296.

  5. القدال.م.س. (2002). تاريخ السودان الحديث 1820-1955. مركز عبدالكريم مرغني. الخرطوم.

  6. التنمية غير المتوازنة-اصدارة الحزب الشيوعي السوداني 1989

  7. محمد سليمان محمد- السودان حروب الموارد والهوية

  8. قصي همرور: براكتيكال اكشن في السودان

  9. الهندسة والعدالة الاجتماعية: سلسلة محاضرات تأسيسية في المهندسين،التكنولوجيا، و المجتمع


Post: Blog2_Post
bottom of page